كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثُمَّ الْبَيْتُ الَّذي أَنْشَدَهُ خَبَرٌ عَنْ شَخْصٍ خَاطَبَ آخَرَ. فَيَقول: لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ كَانَ مَنْ تُنَادِيهِ حَيًّا. وَهَذَا كَقولهِ: {إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقولهِ: {إنَّكَ لَا تسمع الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} وَقولهِ: {قُلْ إنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إذَا مَا يُنْذَرُونَ}. فَهَذَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْبَيْتِ وَهُوَ خَبَرٌ خَاصٌّ. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ فَهُوَ مُطْلَقٌ عَامٌّ. وَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا فَالْمُؤْمِنُونَ أَحَقُّ بِالتَّخْصِيصِ كَمَا قال: {فذكر بِالقرآن مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وَقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}. لَيْسَ الْأَمْرُ مُخْتَصًّا بِمَنْ لَا يَسْمَعُ. كَيْفَ وَقَدْ قال بَعْدَ ذَلِكَ: {سَيذكر مَنْ يخشى وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} فَهَذَا الَّذي يخشى هُوَ مِمَّنْ أَمَرَهُ بِتَذْكِيرِهِ وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِالذكرى. فَكَيْفَ لَا يَكُونُ لِهَذَا الشَّرْطِ فَائِدَةٌ إلَّا ذَمَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ؟ وَأَمَّا قول الْقَائِلِ (قُلْ لِفُلَانِ وَاعْذِلْهُ إنْ سَمِعَك) فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَقولهُ النَّاسُ لِمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ وَلَكِنْ يَرْجُونَ قَبُولَهُ. فَهُمْ يَقْصِدُونَ تَوْبِيخَهُ على تَقْدِيرِ الرَّدِّ لَا على تَقْدِيرِ الْقَبُولِ. فَيَقولونَ: (قُلْ لَهُ إنْ كَانَ يَسْمَعُ مِنْك) و(قُلْ لَهُ إنْ كَانَ يَقْبَلُ) و(انْصَحْهُ إنْ كَانَ يَقْبَلُ النَّصِيحَةَ) وَهُوَ كُلُّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَهُوَ أَمْرٌ بِالنَّصِيحَةِ التَّامَّةِ الْمَقْبُولَةِ إنْ كَانَ يَقْبَلُهَا وَأَمْرٌ بِأَصْلِ النُّصْحِ وَإِنْ رَدَّهُ وَذَمَّ لَهُ على هَذَا التَّقْدِيرِ. وَكَذَلِكَ قولهُ: {فذكر إنْ نَفَعَتِ الذكرى} أَمَرَ بِتَذْكِيرِ كُلِّ أحد فَإِنْ انْتَفَعَ كَانَ تَذَكُّرُهُ تَامًّا نَافِعًا. وَإِلَّا حَصَلَ أَصْلُ التَّذْكِيرِ الَّذي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ وَدَلَّ ذَلِكَ على ذَمِّهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ التَّوْبِيخَ. مَعَ أَنَّهُ سبحانه إنَّمَا قال: {إنْ نَفَعَتِ الذكرى} وَلَمْ يَقُلْ (ذَكِّرْ مَنْ تَنْفَعُهُ الذكرى فَقَطْ). كَمَا فِي قولهِ: {فذكر بِالقرآن مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} فَهُنَاكَ الْأَمْرُ بِالتَّذْكِيرِ خَاصٌّ. وَقَدْ جَاءَ عَامًّا وَخَاصًّا كَخِطَابِ القرآن بـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وَهُوَ عَامٌّ وب {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا} خَاصٌّ لِمَنْ آمَنَ بِالقرآن. فَهُنَاكَ قال: {فَإِنَّ الذكرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وَهُنَا قال: {سَيذكر مَنْ يخشى وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى}. وَلَمْ يَقُلْ (سَيَنْتَفِعُ مَنْ يخشى). فَإِنَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ بِالتَّذْكِيرِ أَعَمُّ مِنْ تَذَكُّرِ مَنْ يخشى. فَإِنَّهُ إذَا ذَكَّرَ قَامَتْ الْحُجَّةُ على الْجَمِيعِ. وَالأشقى الَّذي تَجَنَّبَهَا حَصَلَ بِتَذْكِيرِهِ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقُهُ لِعذاب الدنيا وَالْآخِرَةِ.
وَفِي ذَلِكَ لِلَّهِ حِكَمٌ وَمَنَافِعُ هِيَ نِعَمٌ على عِبَادِهِ. فَكُلُّ مَا يَقْضِيهِ اللَّهُ تعالى هُوَ مِنْ نِعْمَتِهِ على عِبَادِهِ: وَلِهَذَا يَقول عَقِبَ تَعْدِيدِ مَا يذكرهُ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَلما ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَذَكَرَ إهْلَاكَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} فَإِهْلَاكُهُمْ مِنْ آلَاءِ رَبِّنَا. وَآلَاؤُهُ نِعَمُهُ الَّتِي تَدُلُّ على رَحْمَتِهِ وَعلى حِكْمَتِهِ وَعلى مَشِيئَتِهِ وَقدرتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ سبحانه وَتعالى. وَمِنْ نَفْعِ تَذْكِيرِ الَّذي يَتَجَنَّبُهَا أَنَّهُ لما قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَاسْتَحَقَّ الْعذاب خَفَّ بِذَلِكَ شَرٌّ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يُهْلِكُهُمْ بِعذاب مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِيهِمْ. وَبِهَلَاكِهِ يَنْتَصِرُ الإيمان وَيَنْتَشِرُ وَيَعْتَبِرُ بِهِ غَيْرُهُ وَذَلِكَ نَفْعٌ عَظِيمٌ. وَهُوَ أيضًا يَتَعَجَّلُ مَوْتَهُ فَيَكُونُ أَقَلَّ لِكُفْرِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ فَبِهِ تَصِلُ الرَّحْمَةُ إلَى كُلِّ أحد بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَأيضًا فَإِنَّ الَّذي يَتَجَنَّبُهَا بِتَجَنُّبِهِ اسْتَحَقَّ هَذَا الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فَصَارَ ذَلِكَ تَحْذيرًا لِغَيْرِهِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ.
قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نكالا لما بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} وَقال تعالى عَنْ فِرْعَوْنَ: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} وَقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.
فَصْلٌ:
وَقولهُ: {سَيذكر مَنْ يخشى} يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يخشى يَتَذَكَّرُ. وَالْخَشْيَةُ قَدْ تَحْصُلُ عَقِبَ الذِّكْرِ وَقَدْ تَحْصُلُ قَبْلَ الذِّكْرِ وَقولهُ: {مَنْ يخشى} مُطْلَقٌ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لابد أَنْ يَكُونَ قَدْ خَشِيَ أَوَّلًا حَتَّى يذكر وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ هَذَا كَقولهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَقولهُ: {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وَقولهُ: {فذكر بِالقرآن مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وَقولهُ: {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغيب} وَهُوَ إنَّمَا خَافَ الْوَعِيدَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ لَمْ يَكُنْ وَعِيدٌ قَبْلَ سَمَاعِ القرآن وَكَذَلِكَ قولهُ: {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغيب} وَهُوَ إنَّمَا اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُ الرَّسُولُ. وَقَدْ لَا يَكُونُونَ خَافُوهَا قَبْلَ الْإِنْذَارِ وَلَا كَانُوا مُتَّقِينَ قَبْلَ سَمَاعِ القرآن بَلْ بِهِ صَارُوا مُتَّقِينَ. وَهَذَا كَمَا يَقول الْقَائِلُ: مَا يَسْمَعُ هَذَا إلَّا سَعِيدٌ وَإِلَّا مُفْلِحٌ وَإِلَّا مَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَسَنَاتُ وَالنِّعَمُ تَحْصُلُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَسَمَاعِ القرآن. وَمِثْلُ هَذَا قولهُ: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وَقَدْ قال فِي نَظِيرِهِ {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} وَإِنَّمَا يَشْقَى بِتَجَنُّبِهَا. وَهَذَا كَمَا يُقال: إنَّمَا يُحَذِّرُ مَنْ يَقْبَلُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ مَنْ عَمِلَ بِهِ. فَمَنْ اسْتَمَعَ القرآن فَآمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِهِ صَارَ مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذينَ هُوَ هُدًى لَهُمْ. وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُتَّقِينَ؛ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ اهْتَدَى بِهِ. بَلْ هُوَ كَمَا قال اللَّهُ تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. فَلما سَمِعُوهُ صَارَ هُدًى وَشِفَاءٌ؛ بَلْ إذَا سَمِعَهُ الْكَافِرُ فَآمَنَ بِهِ صَارَ فِي حَقِّهِ هُدًى وَشِفَاءٌ وَكَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ بَعْدَ سَمَاعِهِ.
وَهَذَا كَقولهِ فِي النَّوْعِ الْمَذْمُومِ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} وَلَا يَجِبَ أَنْ يَكُونُوا فَاسِقِينَ قَبْلَ ضَلَالِهِمْ؛ بَلْ مَنْ سَمِعَهُ فَكَذَّبَ بِهِ صَارَ فَاسِقًا وَضَلَّ. وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ أَدْخَلُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ كَالْخَوَارِجِ. وَكَانَ سَعْدٌ يَقول: هُمْ مِنْ {الْفَاسِقِينَ الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} وَلَمْ يَكُنْ على وَسَعْدٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ يُكَفِّرُونَهُمْ. وَسَعْدٌ أَدْخَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِقولهِ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ} وَهْم ضَلُّوا بِهِ بِسَبَبِ تَحْرِيفِهِمْ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْوِيلِهِ على غَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ. فَتَمسكوا بِمُتَشَابِهِهِ وَأَعْرَضُوا عَنْ مُحْكَمِهِ وَعَنْ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ مُرَادَ اللَّهِ بِكتابهِ. فَخَالَفُوا السُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مَعَ مَا خَالَفُوهُ مِنْ مُحْكَمِ كتاب اللَّهِ تعالى. وَلِهَذَا أَدْخَلَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ فِي الَّذينَ {يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}، {الَّذينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ الْآيَةُ وَقَدْ دَلَّتْ على أَنَّ كُلَّ مَنْ يخشى فَلَابُدَّ أَنْ يَتَذَكَّرَ. فَقَدْ يَتَذَكَّرُ فَتَحْصُلُ لَهُ بِالتَّذَكُّرِ خَشْيَةٌ وَقَدْ يخشى فَتَدْعُوهُ الْخَشْيَةُ إلَى التَّذَكُّرِ. وَهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ قتادة: فَقال: وَاَللَّهِ مَا خَشِيَ اللَّهَ عَبْدٌ قَطُّ إلَّا ذَكَرَهُ.
{وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} قال قتادة: فَلَا وَاَللَّهِ لَا يَتَنَكَّبُ عَبْدٌ هَذَا الذِّكْرَ زُهْدًا فِيهِ وَبُغْضًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ إلَّا شَقِيًّا بَيْنَ الشَّقَاءِ. وَالْخَشْيَةُ فِي القرآن مُطْلَقَةٌ تَتَنَاوَلُ خَشْيَةَ اللَّهِ وَخَشْيَةَ عذابهِ فِي الدنيا وَالْآخِرَةِ.
قال اللَّهُ تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وَقال تعالى: {فذكر بِالقرآن مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وَقال تعالى: {اللَّهُ الَّذي أَنْزَلَ الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} وَقال: {قالوا إنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عذاب السَّمُومِ}.
فَصْلٌ:
الْكَلَامُ على قوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغيب وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قال: {سَيذكر مَنْ يخشى} وَقال فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ: {فَقولا لَهُ قولا لَيِّنًا لعله يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} فَعطف الْخَشْيَةَ على التَّذَكُّرِ. وَقال: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يذكر أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} وَفِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الْمُؤْمِنِ الْأَعْمَى قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لعله يَزَّكَّى أَوْ يذكر فتنفعه الذكرى} وَقال فِي {حم} الْمُؤْمِنِ: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الكبير هُوَ الَّذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السماء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ} فَقال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ}
وَالْإِنَابَةُ جَعَلَهَا مَعَ الْخَشْيَةِ فِي قولهِ: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغيب وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يوم الْخُلُودِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذي يخشى اللَّهَ لابد أَنْ يَرْجُوَهُ وَيَطْمَعَ فِي رَحْمَتِهِ فَيُنِيبَ إلَيْهِ وَيُحِبَّهُ وَيُحِبَّ عِبَادَتَهُ وَطَاعَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذي يُنَجِّيهِ مِمَّا يَخْشَاهُ وَيَحْصُلُ بِهِ مَا يُحِبُّهُ. وَالْخَشْيَةُ لَا تَكُونُ مِمَّنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ مُعَذَّبٌ؛ فَإِنَّ هَذَا قَطْعٌ بِالْعذاب يَكُونُ مَعَهُ الْقُنُوطُ وَالْيَأْسُ وَالإبلاسُ. لَيْسَ هَذَا خَشْيَةً وَخَوْفًا. وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَشْيَةُ وَالْخَوْفُ مَعَ رَجَاءِ السَّلَامَةِ. وَلِهَذَا قال: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} فَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ لِلَّهِ يُنِيبُ إلَى اللَّهِ كَمَا قال: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغيب وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يوم الْخُلُودِ} وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَمَامِ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ. فَأَمَّا فِي مُبَادِيهَا فَقَدْ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ خَوْفٌ مِنْ الْعذاب وَالذَّنْبِ الَّذي يَقْتَضِيهِ فَيَشْتَغِلُ بِطَلَبِ النَّجَاةِ وَالسَّلَامِ وَيُعْرِضُ عَنْ طَلَبِ الرَّحْمَةِ وَالْجَنَّةِ. وَقَدْ يَفْعَلُ مَعَ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ تُوَازِيهَا وَتُقَابِلُهَا فَيَنْجُو بِذَلِكَ مِنْ النَّارِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. وَإِنْ كَانَ مَآلُهُمْ إلَى الْجَنَّةِ فَلَيْسُوا مِمَّنْ أُزْلِفَتْ لَهُمْ الْجَنَّةُ أَيْ قُرِّبَتْ لَهُمْ إذْ كَانُوا لَمْ يَأْتُوا بِخَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ. وَاسْتَجْمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا قولهُ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ: {لعله يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} وَقولهُ: {وَمَا يُدْرِيكَ لعله يَزَّكَّى أَوْ يذكر فتنفعه الذكرى} فَلَا يُنَاقِضُ هَذِهِ الْآيَةَ. لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (سَيخشى مَنْ يذكر) بَلْ ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ فَإِنَّهُ يَتَذَكَّرُ إمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ فَيخشى وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَتَذَكَّرُ فَلَا يخشى؛ وَإِمَّا أَنْ تَدْعُوَهُ الْخَشْيَةُ إلَى التَّذَكُّرِ. فَالْخَشْيَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّذَكُّرِ. فَكُلُّ خَاشٍ مُتَذَكِّرٌ. كَمَا قال تعالى: {إنَّمَا يخشى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فَلَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ فَكُلُّ خَاشٍ لِلَّهِ فَهُوَ عَالِمٌ. هَذَا مَنْطُوقُ الْآيَةِ.
وقال السَّلَفُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إنَّهَا تَدُلُّ على أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ فَإِنَّهُ يخشى اللَّهَ كَمَا دَلَّ غَيْرُهَا على أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ. كَمَا قال أَبُو الْعالية: سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنْ قولهِ: {إنَّمَا التَّوْبَةُ على اللَّهِ لِلَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} فَقالوا لِي: (كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ). وَكَذَلِكَ قال مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ التَّابِعين وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. فَنَفَى الْخَشْيَةَ عَمَّنْ لَيْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ بِهِ الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَخَافُونَهُ.
قال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَأَثْبَتَهَا لِلْعُلَمَاءِ. فَكُلُّ عَالِمٍ يَخْشَاهـ. فَمَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّهَ فَلَيْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ مِنْ الْجُهَّالِ كَمَا قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: (كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلما وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا).
وقال رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ (أَيُّهَا الْعَالِمُ) فَقال: (إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يخشى اللَّهَ) فَكَذَلِكَ قولهُ: {سَيذكر مَنْ يخشى} يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يَخْشَاهُ فلابد أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَذَكَّرَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الأشقى يَتَجَنَّبُ الذكرى فَصَارَ الَّذي يخشى ضِدَّ الأشقى. فَلِذَلِكَ يُقال (كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَ خَشِيَ). وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّذَكُّرَ سَبَبُ الْخَشْيَةِ فَإِنْ كَانَ تَامًّا أَوْجَبَ الْخَشْيَةَ؛ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ سَبَبُ الْخَشْيَةِ فَإِنْ كَانَ تَامًّا أَوْجَبَ الْخَشْيَةَ.
وَعلى هَذَا فَقولهُ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ {لعله يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} جَعَلَ ذَلِكَ نَوْعين لما فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ. أحدهَا: أَنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ وَلَيْسَ هُوَ إلَهًا وَرَبًّا كَمَا ذُكِّرَ وَذَكَرَ إحْسَانَ اللَّهِ إلَيْهِ. فَهَذَا التَّذَكُّرُ يَدْعُوهُ إلَى اعْتِرَافِهِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ. فَيَقْتَضِي الإيمان وَالشُّكْرَ وَإِنْ قدر أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُهُ. فَإِنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَنَافِعًا يَقْتَضِي طَلَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا بِعَدَمِهِ. كَمَا يُسَارِعُ الْمُؤْمِنُونَ إلَى فِعْلِ التَّطَوُّعَاتِ وَالنَّوَافِلِ لما فِيهَا مِنْ النَّفْعِ وَإِنْ كَانَ لَا عُقُوبَةَ فِي تَرْكِهَا. كَمَا يُحِبُّ الْإِنْسَانُ عُلُومًا نَافِعَةً وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَرْكِهَا. وَكَمَا قَدْ يُحِبُّ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِيَ الْأُمُورِ لما فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَاللَّذَّةِ فِي الدنيا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا بِتَرْكِهَا. فَهُوَ إذَا تَذَكَّرَ آلَاء اللَّهِ وَتَذَكَّرَ إحْسَانَهُ إلَيْهِ فَهَذَا قَدْ يُوجِبُ اعْتِرَافَهُ بِحَقِّ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ وَيَقْتَضِي شُكْرَهُ لِلَّهِ وَتَسْلِيمَ قَوْمِ مُوسَى إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ عذابا. فَهَذَا قَدْ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ التَّذَكُّرِ.
قال: {أَوْ يخشى}. وَنَفْسُ الْخَشْيَةِ إذَا ذَكَرَ لَهُ مُوسَى مَا تَوَعَّدَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ عذاب الدنيا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ هَذَا الْخَوْفَ قَدْ يَحْمِلُهُ على الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ. وَقَدْ يَحْصُلُ تَذَكُّرٌ بِلَا خَشْيَةٍ وَقَدْ يَحْصُلُ خَشْيَةٌ بِلَا تَذَكُّرٍ وَقَدْ يَحْصُلَانِ جَمِيعًا وَهُوَ الْأَغْلَبُ.
قال تعالى: {لعله يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى}. وَأيضًا فذكر الْإِنْسَانِ يَحْصُلُ بِمَا عَرَفَهُ مِنْ الْعُلُومِ قَبْلَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ وَخَشْيَتُهُ تَكُونُ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْوَعِيدِ. فَبِالْأَوَّلِ يَكُونُ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ والثاني يَكُونُ مِمَّنْ لَهُ أُذُنٌ يَسْمَعُ بِهَا.
وَقَدْ تَحْصُلُ الذكرى الْمُوجِبَةُ لِلْخَيْرِ بِهَذَا وَبِهَذَا كَمَا قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي البلاد هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شهيد}. الْفَائِدَةُ الثانية: أَنَّ التَّذَكُّرَ سَبَبُ الْخَشْيَةِ وَالْخَشْيَةُ حَاصِلَةٌ عَنْ التَّذَكُّرِ. فذكر التَّذَكُّرَ الَّذي هُوَ السَّبَبُ وَذَكَرَ الْخَشْيَةَ الَّتِي هِيَ النَّتِيجَةُ وَإِنْ كَانَ أحدهُمَا مُسْتَلْزِمًا لِلْآخَرِ كَمَا قال: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شهيد} وَكَمَا قال أَهْلُ النَّارِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فَكُلٌّ مِنْ النَّوْعين يَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ. فَاَلَّذي يَسْمَعُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ سَمْعًا يَعْقِلُ بِهِ مَا قالوهُ يَنْجُو. وَإِلَّا فَالسَّمْعُ بِلَا عَقْلٍ لَا يَنْفَعُهُ كَمَا قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالوا لِلَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذا قال آنِفًا أُولَئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ} وَقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تسمع الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} وَقال: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قرآنا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ بِلَا سَمْعٍ لما جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا يَنْفَعُ. وَقَدْ اعْتَرَفَ أَهْلُ النَّارِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ فَقالوا: {بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}. وَكَذَلِكَ الْمُعْتَبِرِينَ بِآثَارِ الْمُعَذَّبِينَ الَّذينَ قال فِيهِمْ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}. إنَّمَا يَنْتَفِعُونَ إذَا سَمِعُوا أَخْبَارَ الْمُعَذَّبِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَالنَّاجِينَ الَّذينَ صَدَّقُوهُمْ فَسَمِعُوا قول الرُّسُلِ وَصَدَّقُوهُمْ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:
أَنَّ الْخَشْيَةَ أيضًا سَبَبٌ لِلتَّذَكُّرِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْآخَرِ. فَقَدْ يَخَافُ الْإِنْسَانُ فَيَتَذَكَّرُ وَقَدْ يَتَذَكَّرُ الْأُمُورَ الْمَخُوفَةَ فَيَطْلُبُ النَّجَاةَ مِنْهَا وَيَتَذَكَّرُ مَا يَرْجُو بِهِ النَّجَاةَ مِنْهَا فَيَفْعَلُهُ..
فإن قيل: مُجَرَّدُ ظَنِّ الْخَوْفِ قَدْ يُوجِبُ الْخَوْفَ فَكَيْفَ قال: {إنَّمَا يخشى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}؟. قِيلَ: النَّفْسُ لَهَا هَوًى غَالِبٌ قَاهِرٌ لَا يَصْرِفُهُ مُجَرَّدُ الظَّنِّ وَإِنَّمَا يَصْرِفُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْعذاب وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْعذاب يَقَعُ وَلَا يُوقِنُ بِذَلِكَ فَلَا يَتْرُكُ هَوَاهـ. وَلِهَذَا قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}.